الجمهور

الملفات الدعوية ذات العلاقة
  • التعريف

جمهور الناس معظمهم؛ لأن جمهور كل شيء معظمه وأكثره، والمقصود بمعظم الناس ما عدا «الملأ»، إذ الملأ عادة قلة، أمّا ما عداهم فهم أكثرية الناس في أيِّ مجتمع بشري، وهؤلاء الجمهور يكونون عادة مرؤوسين للملأ وتابعين لهم، كما يكونون غالبًا فقراء وضعفاء ويباشرون مختلف الأعمال والحِرَف. إذ يكثر وجود هذا الصنف من الناس في الفقراء والكادحين والمكتوين بنيران ظلم مجتمعهم لهم.

وهذا الصنف هو الحقل الذي توافد منه إلى الإسلام بدعوة الرسول الأولى صلى الله عليه وسلم القسم الأعظم من الذين آمنوا به من قومه واتبعوه.

  • السمات و الخصائص

1- سرعة الاستجابة للدعوة: الجمهور أسرع من غيرهم إلى الاستجابة إلى الحق، فهم أتباع رسل الله، يصدقونهم ويؤمنون بهم قبل غيرهم، كما قال هرقل لأبي سفيان يوم اجتمع به في الشام لمّا سمع هرقل بأنه من مكة، فأراد أن يسأل عن أخبار النبي ﷺ، قال هرقل: أشرف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

والسبب في سرعة استجابة الجمهور أنّهم خالون من موانع القبول الموجودة في «الملأ»، كحب الرياسة والتسلُّط والأنفة من الانقياد للغير لكبرهم النفسي، وبالتالي يكون أسرع إلى الإجابة للحق والانقياد له من غيرهم، فهذا الصنف الغالب عليه أنه خالي الذهن من المعرفة الإسلامية، وهو منفتح النفس لها، لا يرفض عرضها عليه، بل لديه استعداد لتقبُّلها.

2- قابلية التأثر بالملأ: مع أنّ الجمهور مهيأ للاستجابة السريعة أكثر من غيره، وأنّ فرص الإيمان أمامه كثيرة، وأنّ فطرته سليمة، فإن هناك احتمال لتأثُّر الجمهور بمكائد «الملأ»، والسير وراء تضليلهم وأكاذيبهم.

والسبب في قابلية الجمهور للتأثر بالملأ ما يأتي:

أولًا: الخوف، فلا شك أنّ الملأ الكافر وبيده القوة والنفوذ والمال يستطيع أن يرهب الجمهور ويخوفهم إن خرجوا عن الكفر الذي هم فيه، وهذا الخوف يثبِّط الهِمَمَ والعزائم عند أكثر الجمهور طلبًا لسلامة أنفسهم من الأذى، قال تعالى: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِن فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِمْ أنْ يَفْتِنَهُمْ وإنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الأرْضِ وإنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ﴾، فالخوف من بطش فرعون وملئه منع أكثر الجمهور من الإيمان به، ولم يؤمن به إلّا قلة منهم وهم خائفون أن يصيبهم بطش فرعون، صحيح أنّ قلة من الجمهور لا يخيفهم التهديد والوعيد بإنزال العذاب الشديد إن آمنوا بالحق، فيعلنوا إيمانهم غير هيّابين ولا وجلين، كما حصل لسحرة موسى عندما أعلنوا إيمانهم بموسى وبدعوته الحق وبربهم -سبحانه وتعالى، ولم يلتفتوا إلى تهديد فرعون لهم بالصَّلْبِ والقتل، وقالوا له: ﴿لا ضَيْرَ إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، إنّا نَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أنْ كُنّا أوَّلَ المُؤْمِنِينَ﴾، وكذلك أصحاب الأخدود آمنوا بالرغم من العذاب الشديد، ولكن هؤلاء قلة من الجمهور، والكثير منهم يتأثرون بالخوف من الملأ، فلا يُقْدِمُون على الإيمان، ثم يطول عليهم الأمد، ويألفون الكفر فيرضونه طائعين بعد أن كانوا له كارهين، فيعمَّهم العذاب، ومما يشير أيضًا إلى أثر الخوف في منع الجمهور من أتباع الحق، قوله تعالى: ﴿وتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ واتَّبَعُوا أمْرَ كُلِّ جَبّارٍ عَنِيدٍ﴾.

ثانيًا: الإغراء بالمال وحطام الدنيا، فإنّ الملأ يملكون ذلك ويلوّحون به إلى الجمهور إن تابعوهم على باطلهم ورضوا بقيادتهم لهم.

ثالثًا: الشبهات، الملأ لا يكتفي بالقوة والبطش والتخويف لصدِّ الجمهور عن دعوة الحق، وإنما يسلك معهم سبيل الشبهات، وهذه الشبهات أنواع كثيرة، منها: رمي الداعي إلى الله بالجنون والضلال والسفاهة.

ومن شبهاتهم أنّ الملأ في مقاومتهم دعوة الحق يريدون حماية عقيدة الناس ومصالحهم ودفع الفساد عنهم، قال تعالى عن مثل هذه الشبهة القديمة في الملأ، المتجدَّدة في كل زمان: ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى ولْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أخافُ أنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أوْ أنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الفَسادَ﴾، ومثل هذا كان يقول الملأ من قريش، من أنّ الرسول ﷺ يريد إفساد عقيدتهم، وتسفيه آلهتهم، ولهذا فهم يقاومونه.

ومن شبهاتهم: أنّ لهم الأموال الكثيرة والجاه والسلطان، وأنّ هذا دليل على أحقيتهم وصلاحهم، ولهذا فهم خيرٌ من الداعي ولو كان رسولًا، قال تعالى: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أفَلا تُبْصِرُونَ، أمْ أنا خَيْرٌ مِن هَذا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ﴾، ففرعون يعتزّ بملكه وسلطانه وثراه ومنعته، ويُوهِمُ الجمهور أنّه وهذه منزلته أحق بالحق من موسى الذي ليس عنده شيء مما عند فرعون، الذي لا يكاد يفصح عن مقصده وغرضه.

وقال تعالى: ﴿وما أرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إلّا قالَ مُتْرَفُوها إنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ، وقالُوا نَحْنُ أكْثَرُ أمْوالًا وأوْلادًا وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾، فهم يستدلون بما أعطاهم الله من أموالٍ وأولاد على صلاحهم ونجاتهم من العذاب، وجهلوا سنة الله في العطاء والمنع، فالله تعالى يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، فلا يكون المال دليلًا على صلاح الشخص ورضى الله عنه.

وهذه الشبهات على بطلانها فإنّها تؤثر في الجمهور؛ لأن من يسمع يضل؛ ولأن الملأ يلقيها بأسلوب ناعمٍ مزخرف ليزيد من تضليله وإغرائه للجمهور بالمال، وإخافته لهم بالقوة. والإنسان يحب الحياة والتمتع فيها، ويخاف الأذى والحرمان، فتتجمَّع الشبهات مع هذه الغرائز الإنسانية فيقع التأثير في أكثر الجمهور، ولا ينجو منها إلّا القليل منهم، ومع هذا يبقى أكثر أتباع الرسل الكرام من الجمهور لا من الملأ.

  • توجيهات دعوية

هذا الصنف من الناس هو الحقل الممتاز ذو الأرض الخصبة الصالحة للحرث والبذر، والإنتاج الوفير، والعطاء الكثير، بعمل قليل، وجهد غير مضن، وزمن غير طويل.

فعلى حامل الرسالة أن يكون شديد العناية والاهتمام بهذا الصنف من الناس، والتعرف عليه، والظفر به، واستثماره استثمارًا ممتازًا، ليكون عطاؤه غزيرًا، وإنتاجه وفيرًا، مع اقتصاد في الجهد والجهاد، والإنفاق والإمداد.

إن عمل حملة الرسالة الإسلامية في هذا الصنف من الناس كعمل الزارع في جنة بربوة، إذا أصابها وابل آتت أكلها ضعفين، وإن لم يصبها وابل كفاها طل، والله يضاعف لمن يشاء نتائج عمله، ومشيئته جل جلاله لا تفارق حكمته، فهو تبارك وتعالى يمنح العاملين الصادقين المخلصين مددًا منه عظيمًا، يضاعف به ثمرات أعمالهم أضعافًا مضاعفة بغير حساب، ثم يثيبهم على أعمالهم، وعلى ثمراتها ونتائجها وآثارها أضعافًا مضاعفة بغير حساب.

  • قصص من القرآن الكريم

الواقع أنّ أتباع رسل الله كانوا من جمهور الناس، قالوا لنوحٍ -عليه السلام: ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أراذِلُنا﴾، وقول «الملأ» من ثمود كما حكاه الله -ﷻ- عنهم: ﴿قالَ المَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَن آمَنَ مِنهُمْ أتَعْلَمُونَ أنَّ صالِحًا مُرْسَلٌ مِن رَبِّهِ قالُوا إنّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾، وكذلك كان أتباع نبينا محمد ﷺ في مكة من الضعفاء، وقد نالهم من المشركين أذى كثير، والجمهور في كل وقت أسرع من غيرهم إلى قبول الحق، قال ابن كثير في تفسيره: «ثم الواقع غالبًا أن يتَّبِع الحق ضعفاء الناس».

ومن الصور التي ذكرت في القرآن الكريم لاستجابة الجمهور لرؤسائهم تحت ضغط تضليلهم وشبهاتهم: استجابة قوم فرعون لفرعون، فقد تابعوه على باطله وناصروه عليه، قال تعالى عنه وعنهم: ﴿فاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ إنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾، وفي تفسير ابن كثير: استخفَّ عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له، والظاهر أنّ فتنة فرعون كانت عظيمة، فقد جمع بين الملك والرئاسة والأعوان والأموال، مع فراغ قلوب قومه من العلم النافع والهدى العاصم والعقل الراجح، فوقعوا في فتنته وأباطيله التي كان يحتجُّ بها في رد دعوة موسى -عليه السلام ﴿فاتَّبَعُوا أمْر فِرْعَوْنَ وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ كما أخبر الله عنهم.

ومما يدل على استعمال الملأ للأموال في قيادة الجمهور: قول ربنا -عز شأنه: ﴿قالَ نُوحٌ رَبِّ إنَّهُمْ عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَن لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إلّا خَسارًا﴾، فإنهم اتبعوا ساداتهم وكبراءهم أصحاب الرئاسة والأموال على أمل الحصول على شيءٍ من أموالهم، وفي قوله تعالى حكاية عن فرعون: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ إشارة -على ما أفهمه- إلى إغراء فرعون للجمهور بما يملكه من مالٍ وأسباب الحياة المادية، وأنه يعطيها من يوافقه على باطله، أو يهيئ له فرصة الاستفادة منها.

وقال تعالى عن إغواء السادة والكبراء للضعفاء وهم الجمهور: ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الهُدى بَعْدَ إذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، وقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ إذْ تَأْمُرُونَنا أنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ ونَجْعَلَ لَهُ أنْدادًا وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ وجَعَلْنا الأغْلالَ فِي أعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾، في هذه الآيات الكريمة يخبر الله تعالى عن تمادي الكفّار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن وبما أخبر به، ثم يخبر -سبحانه وتعالى- عن أحوالهم التي سيصيرون إليها يوم القيامة، ومنها: وقوفهم بين يدي ربهم يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب، والخصم بعد أن كانوا في الدنيا متناصرين، ومن هذه المحاججة والمراجحة في اللوم والعتاب قول الذين استضعفوا منهم، وهم الأتباع، للذين استكبروا منهم وهم قادتهم وسادتهم ورؤساؤهم: ﴿لَوْلا أنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِين﴾، أي: لولا أنتم كنتم تصدوننا عن الهدى لكنّا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به من الحقِّ، فيقول الذين استكبروا وهم القادة والرؤساء: ﴿أنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الهُدى بَعْدَ إذْ جاءَكُمْ﴾، أي: نحن ما فعلنا بكم أكثر من أن دعوناكم فاتَّبَعْتُمونا من غير دليل ولا برهان، وخالفتم الأدِلَّة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل؛ لشهوتكم واختياركم الدنيا وما وعدناكم به، وكنتم مجرمين باتباعكم إيّانا، فيقول المستضعفون وهم الجمهور من الكفار للملأ المستكبرين من الكفار: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾، أي: مكركم بالليل والنهار، أي: كنتم تمكرون بنا ليلًا ونهارًا، أوتغروننا وتمنُّوننا بالأماني الباطلة، وتخبروننا أنكم على الحق، وأنّ دعوة الرسل باطلة، فإذا جميع ما ذكرتموه لنا باطل وكذب، وكنتم تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادًا، أي: نظراء وآلهة معه، وتقيموا لنا شبهًا لإثبات باطلكم لإضلالنا وإغوائنا، وهكذا فإنّكم أيها الكبراء المجرمون بدعائكم لنا إلى الكفر وتزيينكم لنا الباطل اتبعناكم وصرنا من الكافرين، ثم يخبر الله تعالى عنهم أنّهم أسروا الندامة لمّا رأوا العذاب، أي: أظهروا جميعًا الندم، السادة والأتباع، كلٌّ ندم على ما سلف منه، ولكن لا ينفعهم الندم، ولهذا توضع في أعناقهم السلاسل، أي: تجمع أيديهم مع أعناقهم جزاء أعمالهم وتكذيبهم، للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع عذاب بحسبهم.