شبه جزيرة القرم.. الفردوس الضائع (1)مقالات

أحمد يونس

المصدر: شبكة الألوكة، 16/ 5/ 2012م.


 

قبل التفكير بخطوة زيارة شبه جزيرة القرم - جمهورية ذاتية الحكم بدولة أوكرانيا عاصمتها سيمفروبل - لم يتوقف ذهني عن التخطيط لسير الرحلة، لا سيما وأنني سأكون بمنطقة كثيراً ما سمعت وقرأت عن شعبها وقضاياه وهمومه وآماله، فشبه جزيرة القرم التي يسكنها قرابة 2 مليون نسمة – نسبة المسلمين منهم تتجاوز الـ 20% - تبلغ مساحتها 27 ألف كم² ويحدها من جميع الاتجاهات البحر الأسود عدا الشمال حيث اليابسة مع جارتها مدينة خِـيرسُون، ويتحدث أغلب سكانها الروسية فيما تحل الأوكرانية والتترية تتابعاً.

شبه جزيرة القرم تلك المنطقة الجغرافية ذات الجمال الساحر وعبق التاريخ مفعمة بالأحداث والوقائع التي وجب عليّ ذكرها وفاءً لمن قضوا نحبهم في مأساة هي الأفظع على مر الحقب الاستعمارية التي استولت أو حكمت القرم.

القِرْم في التاريخ:

القرم تعني القلعة باللغة التترية وكانت عاصمتها مدينة (بختشي سَرَاي) إبّان الحكم العثماني منذ 1521م، وقد أصبت ولاية من ولايات الدولة الإسلامية وما يزال ديوان الوالي وبيته ومسجده شاهداً على إسلامية المنطقة حيث تحوّل لمكان تراثي يؤمُّه السياح، اتحد تتار القرم مع القوزاق (سريعاً ما انشقوا عنهم متّحدين مع البولونيين) في تكتيك فُرِضَ عليهم بحكم أكثريتهم ليستطيعوا الانشقاق عن حكم الكومنولث الليتواني البولندي،وقد توجت ثورة التتار بوجه الكومنولث بتحقيق الانفصال والانتصار على الليتوان. لكن القوزاق الخاسرين من الثورة لم يجدوا ملاذاً سوى أحضان القيصر الروسي، الذي بدأ العمل للسيطرة على القرم تلك المنطقة الاستراتيجية المطلة على شاطئ البحر الأسود، ففي 1678م حاصر الروس القِرم في محاولةٍ لاحتلالها لكنها باءت بالفشل، وبعد 96 سنة سقطت القِـرم في قبضة الروس بسقوط عاصمتها بخش ساراي واستسلام خانات القرم لجيوش الروس وتم اعلان القرم حكماً روسياً عام 1783م بموجب معاهدة "كوجك قينارجه" التي أسفرت عن فقدان العثمانيين لسيطرتهم على البحر الأسود ومناطق شاسعة أخرى ما بين نهري دنيبر والباغ، وقد استفاض الكاتب الأمريكي دونالد كواترت في حديثه عن الدولة العثمانية والحكم الإسلامي في كتبه التي ترجمت للعديد من اللغات العالمية وأشهر كتبه " الدولة العثمانية 1700-1922 " الذي قرأت فيه عن معاهدة كوجك قينارجه وما تبعها من معاهدات وأحداث.

التطهير العرقي بحق مسلمي تتار القرم:

لعلي وأنا أتجوّل بشوارع مدينة سيمفروبل عاصمة القرم (تعني أق مسجد أي المسجد الأبيض وتلك التسمية كانت إبان حكم الدولة العثمانية وخانات القرم للإقليم) رجعت لفترة حكم الدولة العثمانية قبل أكثر من 235 سنة، حيث البيوت والشوارع والمباني العامة وكأنها تدلّك على تاريخٍ إسلاميٍ أصيل عاش مع شعب هذه الأرض واجتبل حياتهم، ليس كلاماً مبالغاً فيه.. لكنها بحقٍ رائحة التاريخ الاسلامي وعبق المجتمع التتري المسلم، لكن هل يعقل أن أكونَ قد تجولتُ في شوارعَ كانت يوماً بحراً من الدماء؟ وهل يتخيل ذو لب تلك المشاهد الفظيعة التي ترويها كتب التاريخ عن تطهيرٍ عرقيٍ بحق مسلمي تتار القرم؟! فعلاً لا تستطيع أن تتمالك نفسك وأنت تقرأ عن مذابح يقدّر عدد ضحاياها من المسلمين ما يقارب الـ 400 ألف تتري مسلم، نعم.. صدّق ما تقرأ فعلاً فبين أزقة مدن الإقليم قتل وعُذّب ما يفوق مليونا تتري مسلم،ومن هنا هُجّر ما يقرب 600 ألف تتري خلال فترات متفاوتة وشُـتّـتوا في عدة بلدان (سيبيريا، أوزبكستان، تركيا) إبّان حكم روسيا القيصرية وأثناء الحقبة السوفييتية. ولعل الأرقام الواردة من كتب التاريخ تشير إلى انخفاض عدد تتار القرم عام 1883م من 9 ملايين نسمة إلى 900 ألف نسمة تقريباً عام 1941م.

كما رافق المجازر عملياتُ الحرق والتنكيل والتدمير الفظيعة التي ارتكبتها جيوش القيصر الروسي بحق ممتلكات ومساجد ومكاتب ومزارع التتار المسلمين، ولعل الفاجعة كانت في تدمير ومحو أعداد ضخمة من الكتب والمؤلفات الاسلامية والقومية التترية الأمر الذي جعل تاريخ الشعب التتري ماضياً من الزمن، أما من تمسك بأرضه ورفض التهجير من تتار القرم فمارست عليهم الدولة السوفيتية شتى ألوان العذاب، فلم تحرمهم فلاحة أرضهم أو استغلالها فقط، بل صادرتها وأعطتها لمواطنيها الروس.

جمهورية القرم ومجلس شعب تتار القرم:

مع اندلاع الثورة الشيوعية في موسكو 1920م استغل تتار القرم الأحداث معلنين عن ولادة جمهورية القرم برئاسة نعمان حيجي خان، لكن سرعان ما أُجهضت تلك الحكومة وأُعدم وزراؤها وألقي بجثة خان في البحر الأسود. وبعد اعتراض التتار على إنشاء كيان يهودي سنة 1928م بالقرم، تم إعدام ما يقارب 3500 إمام وخطيب ومثقف مسلم بمن فيهم وزراء الحكومة المحلية ورئيس جمهورية القرم حينها ولي إبراهيم وتهجير زهاء 40 ألف مسلم لسيبيريا بالشمال الروسي. وفي عام 1946م تم إلغاء جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي بقرار من مجلس السوفييت الأعلى وإلحاقها بأوكرانيا. ومع بداية عهد غورباتشوف سُمح لبعض المهجّرين من تتار القرم بالعودة لوطنهم بلا حقوق أو تعويض عن مأساة تهجيرهم وترويعهم، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عُقد في 26 يونيو 1991م أول مجلس أعلى لتتار القرم بمدينة سيمفروبل عاصمة الإقليم كممثل للشعب التتري وانتخب المناضل التتري المسلم مصطفى جميلوف كأول رئيس للمجلس تحت شعار " لقد عادت إلينا شخصيتنا الإسلامية التي لا يمكن أن نفرط فيها، إننا مسلمون وسنبقى مسلمين، وسنعمل جاهدين على تعلُّم ديننا" وهنا يذكّرني جميلوف برئيس البوسنة والهرسك المرحوم علي عزت بيجوفيتش حيث يقول : "أنه لا توجد حادثة واحدة في التاريخ لم تكن فيها حركة إسلامية حقة وأصيلة حركة سياسية في نفس الوقت، إن السبب وراء ذلك أن الإسلام أسلوب حياة متكامل".

العودة.. البناء.. والأمل:

مطلع عام 1987م بدأ تتار القرم بالعودة إلى أراضيهم وممتلكاتهم التي هجّروا منها بلا حقوق ولا تعويض عما اقتُرِف بحقهم من تنكيل وآلام، وفي بداية التسعينيات وصل لشبه جزيرة القرم أعداد قليلة من مهجّري مأساة 1941-1945م وذلك مع ضم القرم ككيان داخل جمهورية أوكرانيا الاشتراكية، ولم يمنح من التتر المسلمين أي بطاقات تعريف أو جنسية إلا نصف السكان الواصلين آنذاك، ولم يسمح لهم باسترجاع ممتلكاتهم أو أراضيهم ومواشيهم ولا حتى النظر إليها، ومن عادوا للوطن لا يمثلون سوى الأقلية فـتتار القرم يتجمعون في تركيا وأوزبكستان وروسيا بعيداً عن الوطن الأم؛ لذلك فالقرميون التتر يشكلون أقلية (20% من عدد السكان) لذلك فتمثيلهم بالبرلمان القرمي عضوان فقط وبذلك أصبحت الحكومة القرمية لا تتعامل مع المسلمين التتار في قضايا (تعويض، ممتلكات، جنسية، تملّك.. إلخ) إلا من خلال البرلمان.

ورغم كل ما يعيق تعايش مسلمي القرم ورغم كل القرارات والاجراءات التي تنغص حياتهم، إلا أن صبر وشجاعة هذا الشعب جعلهم ينتصرون على كل المؤامرات والحركات العنصرية التي تزيد حدةً شيئاً فشيئاً وذلك خلال العشر سنوات الأخيرة، ويجتهد مسلمي القرم في بناء المساجد والمكتبات وإثراء التراث القومي التتري ويعملون في الفلاحة والتجارة والنقل العام، ويأمل شعب تتار القرم بالعيش في مجتمع متسامح ينصفهم في مطالبهم وحقوقهم ويحفظ عليهم أمنهم وتراثهم القومي، كما يطلب زيادة تمثيله الرسمي في دوائر حكومة الاقليم ومرافقها السيادية كونهم أصحاب تاريخ وذوي تعداد سكاني الأكبر بين باقي قوميات الإقليم (روس 50%، أوكران 30%) رغم تشتتهم بدول مختلفة.